الأحد، 24 أبريل 2011

أبتاه ياحجي داوود: ستصلي في مسجدك حين تتحرر اوال

أبتاه ياحجي داوود: ستصلي في مسجدك حين تتحرر اوال


من صاحب ذلك الجسد النحيف الذي وقف كالجبل يتحدى فلول قريش، ويشتم اللات والعزى، ويستخف بأصحاب الفيل؟ أية نفس تلك التي حلت في العظام التي نخرتها السنون، وأتعبتها الايام، ولكنها بقيت واقفة لا تنحنى ولا تخضع ولا تستسلم؟ من ذلك الذي رفع سبابتيه الى السماء وقال: اللهم أشكو اليك ما فعله الاشقاء بعبادك، وما ارتكبه المجرمون بحق مسجدك هذا، اللهم انتقم منهم يا من لا يفلت من عقابك ا لمجرمون". لم يملك شيئا من حطام الدنيا سوى ما ارتداه من ثياب لا يطمع فيها أحد، ولم يحمل معه سلاحا سوى ما اختمر في قلبه من الايمان بان الله هو المقتدر الجبار، وانه قاصم الجبارين، مبير الظالمين، صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين. وقف في تلك البرية التي اقفرتها جيوش الغزاة والمحتلين، غير آبه بعددهم وعدتهم.

لقد اعتاد ان يؤدي صلاته في ذلك المسجد الذي طالما اختلى فيه للعبادة، يناجي ربه، شاكيا اليه همومه وظلم الظالمين. جاء على عادته اليوم، ووقف مذهولا: هل ضل الطريق؟ كان يقيس المسافة بالزمن الذي تستغرقه مشيته الهوينى من منزله المتواضع الى عتبة باب المسجد. اليوم اختلط في ذهنه حساب الزمان والمكان، لكن هذا الاختلاط حرره من حساباتهما. لقد دخل في العبادة من اللحظة التي غادر فيها منزله، وخلع فيها لباس الجوع والخوف الذي التحف به الكثيرن من عبيد الدنيا وخدمة الطاغوت. ولانه كان كذلك، لم يعر للبناء اهمية تذكر في نفسه. حسبه ان تلك البقعة اصبحت الآن بدون سور او سقف، نظر اليها مبتسما وقال: لقد تحررت من مظاهر الدنيا، وبقيت محتفظة بقداستها الربانية. ها هنا وقف العباد والزهاد، ومن هنا تخرج الاباة والاحرار، وفي هوائها رفرفت ملائكة السماء احتفاء بالمصلين والداعين والمستغفرين بالغدو والآصال. لطالما التقى الرجل باولئك الصالحين الذين ا ستشهد بعضهم وبقي البعض الآخر بانتظار شرف الشهادة، وما يضيره ان تأخر عنها؟ انه هنا يسجل موقفا امام الله وامام التاريخ، بـ "ان المساجد الله، فلا تدعو من دون الله أحدا". من قال ان هناك إلها آخر غير الله؟ من يستطيع ان يقنعه بان الطاغية قادر على يمنحه الحياة او يسلبها منه؟ لم يخالجه قط ان عين الله تنام عن المؤمنين، او يتجاهل دعاء الداعين، او يغفل عن المستكبرين.

وقف الرجل السبعيني، نحيف القامة، قوي الجنان، وقفة لا يقفها الا الابطال والاحرار. استقبل القبلة، ورفع يديه الى اذنيه وكبر، كان لتكبيره صدى في عنان السماء، فكأن الملائكة رددتها وصلت معه. سمع صلاة الملائكة، وأيقن ان الكون كله يكرر تكبيره وتقديسه وتسبيحه. وقف لا يلوي على شيء، فكأن فرعون وجنوده قد التهمهم البحر، او غاصت بهم الارض. بالامس كان الرجل يودع الشهداء، الواحد تلو الآخر، رأى بعينيه اجسادهم المهشمة بالسيوف والفؤوس، فكانت نفسه تزداد اطمئنانا بان العاقبة للمتقين، ولا عدوان الا على الظالمين. لم يشك لحظة في حتمية انتصار شعبه. لقد ترددت قدماه على المقابر منذ نعومة اظفاره، ورأى شخوص البشر تمر بهذه البلاد، فكأنها جسر يصل بهم الى الآخرة. استحضر الاجيال التي عاصرها وسقط ابناؤها شهداء في ميدان العبادة والكرامة والحرية. برغم تقدم سنه وضعف ذاكرته، لم يغب عن ذهنه قط انه مسؤول امام ربه عن الموقف الذي يقفه في حياته، وعن عمق الايمان الذي يختزنه في قلبه، ومدى انسجام عبادته مع سلوكه ومواقفه. دفعته حكمة السبعين ان موقفه اليوم، وهو يرى مسجده داميا بعد تدمير حيطانه وسقفه، ان يقف معه ويشد ازره، ويضمد جراحه، كما فعل مع بقية الشهداء. ذرف بعض الدموع قبل الولوج الى الصلاة، ولكنه سرعان ما استوى وقال: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. لم يسمح لليأس والقنوط بالتأثير على مزاجه او موقفه او تصوره او معنوياته. فاذا به يقول: النصر لنا... النصر لنا... النصر لنا، ثم تلى الآية الكريمة: انهم لهم ا لمنصورون، وان جندنا لهم الغالبون.

وقف، متمثلا بحمزة بن عبد المطلب يوم بدر، والحسين بن علي في كربلاء، وأومأ بيديه الى السماء وهو يقول: اللهم ان هذا بيتك، وانت خير حافظ له، يا قاصم الجبارين". وعندما شرع في الصلاة، ولج الى عالم آخر، يتلاشى فيه الزمان والمكان، ويتكامل فيه العمل بالايمان، ويناجي ربه في السر والاعلان. بالامس كان الجدار يحول بينه وبين الكون البعيد، اما اليوم فقد اصبح قادرا على النظر للافق البعيد. رأى على ذلك الأفق شفقا أحمر تتقاطر منه الدماء، وطيورا ترف باجنحتها المتعبة، بعد ان حلقت طويلا في عالم المجد، وشعرت بالرغبة في الراحة. ادركتها رصاصات الصياد فوقعت، الواحد تلو الآخر. هل كان يحلم؟ أليس هو في الصلاة؟ أم انه طيف من الرحمن يخبره بان موقفه هذا لا يختلف عن صمود الشهداء الذين روت دماؤهم ارض العزة والكرامة؟ لم يكن الا مؤمنا متوكلا على الله، ولم يخضع يوما لجدلية الاحلام، بل كان ايمانه هو المنطلق لموقفه. وهذا ما دفعه لاداء الصلاة في مسجد بدون جدران، ومحراب بدون قوائم او دعامات، ومع مصلين لكنهم من غير جنس البشر. كان ثمة شخص جاءت به الاقدار لتسجل موقف العابد ا لسبعيني ليكون درسا لمن قد يخالطهم شيء من الشك بحتمية النصر، لكي يستطيع ان يقول لهم: الحرية لا تحتاج لقصور او بيوت او مراكز او مبان، بل لنفس كريمة ارتبطت بربها ملتزمة باوامره ونواهيه، متوكلة عليه، رافضة الآلهة سواه، موقنة بان الظلم لا يدوم، وان الحق منتصر بدون شك، وان الظالمين الى زوال.

أيها المصلي في مسجد بدون جدار ولا سقف:

رأيت في وجهك سيماء المؤمنين، وفي عينيك مواثيق الصادقين، وفي قلبك بصيرة الصابرين، فأيقنت ان الشعب الى خير بعون الله، واننا منتصرون. قرأت في تقاطيع وجهك المضنى بتعب السنين تعبيرا عن مسارات طالما تعرجت وتداخلت، وعندما رفعت يديك بالدعاء، رأيت في خلجات شفتيك نداء ابديا لا يخلق او يتلاشى او يذوب، يقول ان الارض لله يرثها عبادي الصالحون. امعنت النظر في وقفتك، فاذا بك الطود الشامخ الذي لا يلين، والجبل الأشم الذي لا ينحني، والصادق الامين الذي لا يخون الامانة التي اودعها الله اياه منذ يوم خليقته. عرفت بانك حولت ايمانك الى مشروع تغيير شامل، مع علمك بان اعداءك شرسون مكابرون متجبرون، ظالمون، ولذلك لم تخف بطشهم وجبروتهم، ولم تضعف امام ارهابهم وتهديدهم، ولم تبع آخرتك بدنيا غيرك. توجهت الى مسجدك، فرأيته خاليا من البشر، وقد خيم عليه صمت قاتل، لكنك رأيت طائرا يحوم حوله ولسان حاله يقول: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم، لا يرتد اليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء". انت والمسجد والطائر جنود الله الذين يفتح الله بكم على المؤمنين ويهزم بكم الظالمين والطغاة والمجرمين، وينتقم بكم للمظلومين، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون". سوف تصلي في مسجدك قريبا، مكتمل البناء، شامخا كما الشعب، صامدا كما البحرين، مؤمنا كما أنت. "فاذا جاء وعد الآخرة، ليسوؤوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا".


Freedom of Expression

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق